ذهب مشهور علماء أهل السنة إلى القول بأن كلمة "الولي" في قوله صلى الله عليه وآله "من كنت مولاه فهذا علي مولاه" لا تعني الأولى بالتصرف بل تعني المحب والناصر. بل ذهب كل من التفتازاني[88] والفخر الرازي[89] والقاضي الأيجي والجرجاني[90] إلى القول بأنه لا يمكن ان تفيد كلمة "مولى" صاحب الاختيار والأولى بالتصرف، مستدلين على مدّعاهم هذا بعدّة وجوه، هي:
ردّ علماء الشيعة على هذه الإشكالات بوجوه، منها:
وبعبارة أخرى: إنّ ما تشبث به الرازي يطّرد في غير واحد من معاني المولى التي ذكرها الرازي وغيره، منها ما أختاره معنى للحديث وهو: الناصر. فلم يستعمل هو مولى دين الله مكان ناصره، ولا قال عيسى على نبينا وآله وعليه السلام: من موالي إلى الله. مكان قوله: من أنصاري إلى الله. ثالثا: إن صحة وقوع المرادف موقع مرادفه إنما يكون إذا لم يمنع من ذلك مانع، وههنا منع مانع وهو الاستعمال، فإن إسم التفضيل لا يصاحب من حروف الجر إلا (من) حاصة، وقد تحذف مع مجرورها للعلم بها نحو: والآخرة خير وأبقى.[98]
يرى علماء الشيعة أن مفردة المولى في الحديث يراد منها الأولى بالتصرف؛ فكما أن النبي صلى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم كذلك يكون الأمر بالنسبة إلى علي عليه السلام. ولأجل إثبات صحة هذه النظرية لابد من إثبات قضيتين:
ألف: المولى تعني الأولى بالتصرف.
ب: وجود الملازمة بين الاولوية بالتصرف وبين الإمامة والخلافة.[99]
ولاريب أن هناك مجموعة من القرائن- حسب ما يقول أصحاب هذه النظرية - من داخل النصّ ومن أطراف الحديث تكشف عن كون المولى الوارد في الحديث يعني الأولى بالتصرف ومع إثبات أولويته تثبت الإمامة بطريقة طبيعية؛ وذلك لأنّ العرب تستعمل مفرد الأولى في المواطن التي يكون شخص المولى هو مدبر شؤون الأفراد المولّى عليهم والذي تكون أوامره ونواهيه نافذة ومقبولة عندهم.[100] واذا ثبتت الأولوية بالتصرف ثبتت أولويته في سائر شؤون الحياة كما كان ذلك ثابتاً للرسول الأكرم (ص) في قوله تعإلى: "..... النَّبِي أَوْلى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ". [101]
وقد خاض الشيعة لإثبات هذا المعنى في الحديث في بحوث شتّى، وغاصوا في مضامينة ومفرداته من أكثر من زاوية، ورصدوا لكلمة المولى مجموعة من المراتب مشتقة من الولي وأنّها من أسماء الله تعإلى.[102] مادة "ولي" وقد استعملت المفردة في عدة معان جاءت في بعضها على وزن فعيل بمعنى فاعل[103] وبمعنى الوالي والحاكم والمدير والمدبر والمتصرف في الأمور وولي النعمة.[104] ومن تلك الاستعمالات للمفردة الأولى والأجدر والأقرب.[105] والتابع والمحب.[106]
يرى أعلام الشيعة أنّ مفردة المولى وإن تعددت استعمالاتها ومعانيها عند العرب، إلاّ أنّ الشواهد والقرائن في متن الحديث والظروف المحيطة ترجّح كون المراد منها "الأولى بالتصرف"، ومن هذه القرائن:
قرن النبي الأكرم (ص) في الحديث بين أولويته المنطلقة من قوله تعالى «النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم»[107] والتي لا تعني إلّا الأولوية بالتصرف والإدارة والحكم وإدارة أمورهم التي يترتب عليها الاذعان والطاعة والخضوع له والالتزام بأوامره والإمساك عن نواهيه.[108] ويعني الأولى بهم في أمورهم الدنيوية والدينية؛[109] لأنه الأعرف بما يصلحهم وما يضرهم.[110] ولما قرنت بقوله "من كنت مولاه فهذا علي مولاه" كان المراد من قوله (ص): "فعليّ مولاه" أيضاً الأُولى بالتصرّف بقرينة أنّه وقع في ذيل الجملة الأُولى، ولا يُمكن تفكيكهما. مضافاً إلى أنّ سائر المعاني التي ذكروها لهذه اللفظة، لا تناسب المقام والمراد من وقوعها في هذا المكان.[111]
يستفاد من نعي النبيّ نفسه إلى الناس وسؤالهم عن التوحيد والتمسك بالرسالة من بعده[112] أنّه يعرب عن أنّه سوف يرحل من بين أظهرهم فيحصل بعده فراغ هائل، وأنّه لابد من التفكير الجاد في معالجة الفراغ من بعده لتواصل الرسالة مسيرتها ولا تذهب الجهود التي بذلت طيلة الأعوام الماضية هدراً، ولابد من تعيين الخليفة الجدير بتحمل هذه المسؤولية وأنّ ذلك الخلل يُسدّ بتنصيب علي عليه السلام في مقام الولاية،[113] وأنّ الآية السابعة والستين قرينة على هذا المدعى.
القرينة الأولى:
ما أن انتهى النبي الأكرم (ص) من خطبته حتى قام حسّان بن ثابت شاعر النبي (ص) وقال: إئذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهن. فقال: قل على بركة الله. فأنشد يقول:
|
||
يناديهم يوم الغدير نبيّهم | بخــــــــم فأسمع بالرسولِ مناديـــــــــا | |
بأنِّي مولاكم نعمْ ووليُّكم | فقالوا ولم يبدوا هناك التعــــــــاميا | |
إلهك مـــــــولانا وأنتَ وليُّنا | ولاتجدن في الخلق للأمر عاصيا | |
فقال له قم يا عليُّ فإنَّني | رضيتك من بعدي إمــــــاماً وهاديا | |
فمن كنت مولاه فهذا وليُّه | فكــــونوا له أنصـــــــارَ صدقٍ مواليا | |
هناك دعـا: اللَّهمَّ والِ وليَّه | وكُن للذي عـــــــــــــــادى عليَّاً معاديا[114] |
القرينة الثانية:
تهنئة الناس عامة والخليفتين الأول والثاني خاصة، ثمّ أخذ الناس يهنّئون عليّاً، وجاء في بعض المصادر إن ممّن هنَّأه عليه السلام بعد انتهاء الخطبة وفي مقدّم الصحابة الشيخان أبوبكر وعمر[115] كلّ يقول: «بَخٍّ بَخٍّ، لك يابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كلّ موَمن وموَمنة».[116] مما يدل على أن الصحابة والمسلمين فهموا دلالة الحديث على خلافة أمير المؤمنين وأنّه الأولى بالتصرف.[117]
فهم الكثير من شعراء صدر الاسلام المعنى المذكور، وراحوا يسطرون ذلك المعنى في قصائدهم أولهم حسان بن ثابت الذي كان قد شهد الواقعة مصرحاً بأن النبي جعل علياً أماماً وهاديا للمسلمين من بعده.[118] ومن هؤلاء الشعراء عمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة والكميت بن زيد الأسدي[119] ومحمد بن عبد الله الحميرى[120]والسيد بن محمد بن الحميري[121] ولأمير المؤمنين عليه السلام مقطوعة شعرية في هذه الواقعة.[122] جاء فيها كما في الفصول للمفيد ص 280:
|
||
محمد النبي أخـــــــــي وصنوي | وحمـــــــــــزة سيد الشهداء عمّي | |
وجعفر الذي يضحي ويمسي | يطير مـــــــــع الملائكة ابن أمي | |
وبنت محمـــد سكني وعرسي | منـــــــوط لحمها بدمي ولـحمي | |
وسبطا أحمد ولـــــــــــــداي منها | فأيـــــــــــــــكم لــــــــه سهم كسهمي | |
سبقتكم إلـــــــــــى الاسلام طرا | على ما كان من فهمي وعلمي | |
فأوجب لـــــــــــــي ولايته عليكم | رســــــــــــــول الله يوم غدير خم | |
فويل ثم ويـــــــــــــــل ثم ويــــــــــل | لمــــــــــن يلقى الإله غدا بظلمي |
وقد ذكر العلامة الأميني قائمة بأسماء الشعراء من الصحابة والتابعين حتى القرن التاسع الهجري[123] تؤكد قصائدهم على فهمهم للمعنى المذكور وأن المولى لا يعني من بين معانية المتعددة إلا الأولى بالتصرف والولاية والخلافة.
من القرائن الأخرى التي تؤكد الفهم الشيعي لحديث الغدير احتجاج أهل البيت عليهم السلام بالحديث على أحقية أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة والحكم؛ منها: احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على طلحة والزبير في معركة الجمل.[124] واحتجاجه في باحة مسجد الكوفة[125] وضمن مجموعة من الأبيات الشعرية في رسالته إلى معاوية[126]واحتجاجه عليه السلام يوم صفين[127] ومنها احتجاج السيد فاطمة الزهراء (س) على المناوئين لخلافة أمير المؤمنين عليه السلام.[128]
من القرائن الأخرى التي ترشد إلى المعنى المذكور استجابة دعاء الإمام عليه السلام وابتلاء بعض الصحابة الذين كتموا الشهادة وحاولوا إخفاء مفاد يوم الغدير رغم علمهم به، منهم أنس بن مالك الذي أبتلي بالبرص؛[129] وزيد بن أرقم [130] والأشعث بن قيس[131] اللذان ابتليا بالعمى. مما يكشف عن كون القضية فوق قضية الحب والمودة لعلي عليه السلام، بل هي قضية مصيرية حاول هؤلاء إنكارها وكانت بدرجة من الأهمية بحيث كان أهل البيت يرون الكاتم للشهادة بها مستحقاً للدعاء عليه.[132]