المَعَاد، أصل من أصول الدين الرئيسية في الديانة الإسلامية، ويراد به الإيمان ببعث الناس يوم القيامة. ويؤكد هذا الأصل أن جميع البشر سيعاد بعثهم يوم القيامة ليقفوا أمام ساحة العدل الإلهي لينال المحسنون منهم ثوابهم وينال الكافرون والظالمون جزاءهم العادل. ويحظى المعاد في الثقافة الإسلامية بأهمية كبرى استوعبت كما وافراً من الأحاديث الشريفة ومن آيات القرآن الكريم حتى بلغ عدد الآيات التي تحدثت عن المعاد وخصوصياته والأمور المتعلقة به ما يقارب ثلث القرآن الكريم. ولاريب أنّ للإيمان بهذا الأصل انعكاسات إيجابية على سلوك الإنسان المسلم وحثّه نحو فعل الخير وسلوك سبيل الصالحين والالتزام بقيم السماء وقوانينه الشرعية والتحلي بمكارم الأخلاق.
وهناك عدة تصويرات للمعاد كالمعاد الجسماني الصرف، والمعاد الروحاني، والمعاد الجسماني والروحاني معا. وقد واجه القول بالمعاد مجموعة من الإشكالات والتشكيكات، من أبرزها ما يتعلق بإمكان المعاد عقلاً وتحقق المعاد وإمكان وقوعه. ومن التساؤلات التي أثيرت بوجه القائلين بالمعاد: شبهة الآكل والمأكول، وشبهة إعادة المعدوم، والشبهة التي ترتبط بعلم الله تعالى وقدرته وهل العلم الإلهي بهذه الشمولية والسعة بحيث يتمكن من تشخيص ومعرفة الأجساد المعادة؟.
وقد حاول القرآن الكريم معالجة هذه الإشكالات والردّ على التساؤلات المطروحة وتنفنيدها وإثبات إمكانية المعاد وانسجامه مع القواعد العقلية، وذلك من خلال ذكر نماذج مشابهة للمعاد وقعت في عالم الدنيا من قبيل إحياء بعض الناس، وبعض الحيوانات وإعادة الحياة إلى الأرض الهامدة والنباتات اليابسة بعد جفافها واندثارها تحت ركام التراب. وقد أقام المتكلمون مجموعة من البراهين لإثبات إمكانية المعاد عقلا من خلال البراهين العقلية من قبيل دليل وبرهان الحكمة، دليل وبرهان العدالة، برهان الرحمة.
وقد ناقشت المدرسة المشائية وعلى رأسها الفيلسوف الكبير ابن سينا في إمكانية المعاد الجسمانية وقالوا بعدم إمكانية إثباته عقلا، مع تعبدهم بثبوته تمسكا بالآيات والروايات التي أكدته، بل القول بضرورة الإيمان به استناداُ إلى ذلك الدليل النقلي الوارد عن المعصومين (عليهم السلام). أما الملا صدرا الشيرازي فقد حاول الجمع بين ما توصلت إليه الفلسفة المشائية وبين الدليل النقلي (قرآنا وسنّة) من خلال طرحه لنظرية المعاد الجسماني وعودة الروح بجسم مثالي.
المعاد- لغة- مصدر عاد يعود، يقال: عاد يعود عَوْداً ومَعاداً- بفتح ميمه-. وأصله (مَعْوَد) على زنة (مَفْعَل) قلبت واوه ألفاً؛ وفي اصطلاح المتكلمين: المعاد يعني عودة الرُّوح بعد مفارَقَتها للجَسَد، مرّة أُخرى- وبإذن اللَّه ومشيئته- إلى الإنسان يوم القيامة ليلقى الإنسان جزاءَ ما عَمِلَهُ في الدنيا، في العالم الآخر، إنْ خيراً فخيرٌ، وإنْ شراً فشرّ. [1]
تظهر أهمية الإيمان بالمعاد في حياة الإنسان على مستويين:
مستوى الحياة الفردية: من البديهي أنّ الإنسان إنّما يتحرك ويمارس نشاطاته الحياتية لغرض تأمين حياته وتلبية متطلباتها وغاياتها على أكمل وجه ونيل السعادة والوصول إلى الكمال الدائم بعيداً عن المتاعب والمشاكل. إلا أنّ طبيعة حركة الإنسان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنوع الأهداف التي يروم تحقيقها في حياته، كما أن لتحديد الهدف النهائي للحياة ومعرفته الدور الكبير في توجيه بوصلة الإنسان وتحديد نوع السلوك الذي ينبغي اعتماده.
فلاريب أنّ من يقصّر الحياة على البعد المادي فقط سوف يبذل قصارى جهده لتحصيل النسبة الأكبر من الملذات الدنيوية والانتفاع بملذاتها بالحد الأقصى؛ فيما نرى المؤمن بوجود عالم آخر وعدم انحصار الحياة في بعدها المادي وأن هناك أبعاداً أخرى للحياة لا تنتهي بالموت، وأن لعمله في عالم الدنيا دور في تأمين السعادة الأخروية، يسير باتجاه معاكس تماماً ويتحرك بطريقة تؤمن له تلك السعاد الحقيقة والحياة الخالدة وتوفر له ذلك الكمال المنشود حتى لو كان ذلك على حساب السعادة والرخاء الدنيويين.
مستوى الحياة الإجتماعية: من الثابت على مستوى البحث الديني والإجتماعي أن لإيمان الإنسان بوجود عالم آخر ترتسم معالمه انطلاقاً من الحياة الدنيا ونوعية العمل وطريقة الحركة ونوع العلاقات التي يرسمها الإنسان لنفسه في هذا العالم، دوراً مهماً في تحديد نوع العلاقة الإجتماعية وطريقة التعاطي بين الأفراد، وأن الإيمان بالثواب والعقاب الأخرويين يلعب دوراً مهما في إبعاد الإنسان عن كل ما من شأنه التطاول على حقوق الناس والتمدد نحو حريم الآخرين، بل يخلق لدى المؤمن حالة من الإيثار والشعور بالحب تجاه الطرف الآخر والميل لمدّ يد العون للمحتاجين والمعوزين منهم.
يضاف إلى ذلك أن الإيمان بالمعاد والثواب والعقاب والرقابة الإلهية يوفر على المجتمع عناء المراقبة الشديدة ووضع القوانين الصارمة لإجراء العدالة وتطبيق القانون؛ وذلك لأن المؤمنين بالمعاد والمستشعرين بالرقيب الإلهي سوف يقدمون على الإلتزام بالقانون والشرع في السر والعلن وإن غاب عنهم رصد السلطات والرقيب الحكومي. ولا ريب أنّه كلما اتسعت رقعة الإيمان بالمعاد في العالم، أعطت نتيجة ايجابيه طردية وعمّ الصلاح وهبط مؤشر الجريمة والظلم إلى الحدّ الأدنى.
والجدير بالذكر هنا أن الإيمان بالتوحيد إذا جرّد من الإيمان بالمعاد لا يعطي النتيجة التكاملية التي تحصل فيما لو ضمّ الإيمان بالتوحيد إلى الإيمان بالمعاد، ومن هنا يتجلى لنا فلسفة تركيز الأديان السماوية وخاصة الديانة الإسلامية على ترسيخ أصل المعاد في ذهنية الفرد المسلم، ونتفهّم أيضا سبب إصرار الأنبياء الإلهيين على ترسيخ هذا الجانب من العقيدة. [2]
يظهر للمتأمل في مسألة المعاد أن الإيمان به والتصوير المنطقي له يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بوجود الروح وطبيعة العلاقة بين الروح والبدن؛ وإلّا لا يمكن بحال من الأحوال تعقّل المعاد فيما تزلزلت العقيدة بوجود الروح وتزعزع الإيمان بمعقولية وجودها. ومن هنا يتوقف الوصول إلى الإيمان الصحيح والمنطقي بهذا الأصل المهم على إثبات مجموعة من المقدمات:
والملاحظة الأخرى التي يلزم التنبيه عليها هنا هي أنّ تركيب الإنسان من الروح والبدن، ليس من قبيل تركيب مادة كيميائية من عنصرين بحيث لو انفصل أحدهما عن الآخر لانعدم الموجود المركّب بصفته كلا ومركباً، بل الروح هي العنصر الأصلي والأساس في الإنسان، وما دامت باقية فإنّ إنسانية الإنسان وشخصية الشخص باقية، ومحتفظة بنفسها. ومن هنا فإنّ تغير خلايا البدن وتبدلها لا يضر بوحدة الشخص، وذلك لأنّ ملاك الوحدة الحقيقية للإنسان هو وحدة روحه. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في ردّه على المنكرين للمعاد حين سألوا: كيف يمكن للإنسان أن يكتسب حياة جديدة بعد أن تتلاشى أجزاء بدنه؟ أجاب: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ...﴾[3] والحال أن بدن الإنسان سوف يتفسخ بعد الموت ويفنى بمرور الأيام ولا يمكن أن يكون هو المقصود بالتوفي في قوله ﴿يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾.[4]
المعاد الجسماني بالجسم المادي العنصري: ذهب المتكلمون إلى القول بأن الإنسان سيحشر يوم القيامة بجسمه المادي والعنصر الدنيوي أو ببدن آخر مشابه له بعد حلول النفس فيه مرّة أخرى؛ وذلك استناداً إلى ظواهر الآيات القرآنية والروايات الشريفة. [5]
المعاد الروحاني: ذهب حكماء الفلسفة المشائية إلى القول بأنّ الإيمان بالمعاد الجسماني ليس غير قابل للإثبات فقط، بل هو أمر غير متعقل ذاتا، وذلك لوجود الكثير من الإشكالات التي تواجه القول به؛ ومن هنا ذهبوا إلى القول بالمعاد الروحاني بمعنى رجوع الروح فقط دون الجسد. وأن جسم الإنسان بعد الموت سوف يفنى وينعدم وتتلاشى أجزاؤه ويتحول إلى تراب وإنما الذي يبقى هو الروح فقط.
والجدير بالذكر هنا أنّ ابن سينا – أكبر فلاسفة المدرسة المشائية من المسلمين- وإن ذهب إلى القول بالمعاد الروحاني يوم القيامة وفق مبانية الفلسفية التي تنفي إمكانية إثبات المعاد الجسماني؛ إلا أنّه يؤمن بالمعاد الجسماني تعبداً بالآيات والروايات التي وردت عن النبي الأكرم وقول النبي حجّة يجب الإذعان لها. [6]
المعاد الجسماني بالجسم المثالي: واجه الملا صدرا قضيتين أساسيتين،الأولى أنّه وجد نفسه أمام كم وافر من الآيات والروايات الصريحة بعود جسم الإنسان مرّة أخرى؛ والثانية وجد أن القول بالمعاد الجسماني يواجه إشكالات كثيرة من قبيل "شبهة الآكل والمأكول" التي تمنعه من القول بالمعاد الجسماني، ومن هنا رأى أن الحل الأمثل للخروج عن هذه الإشكالية وعدم التصادم مع الآيات والروايات، وبعبارة أخرى الجمع بين المنقول والمعقول، يتم من خلال القول بنظرية المعاد الجسماني المثالي؛ بمعنى عود الروح بجسد مثالي. [7]
انقسم الباحثون حول قضية المعاد بين مؤيد لها وبين من أنكر إمكانها أو وقوعها. وقد طرحت على ساحة الجدال المحتدم بين الاتجاهات والفرق المختلفة مجموعة من النظريات حول هذه القضية منها:
إعادة المعدوم: يظن فريق أن المعاد يعني "إعادة المعدوم". وما أكثر ما بحث المتكلمون القدامى في عدم استحالة المعدوم، ظناً منهم أنّ المعاد والقيامة يعنيان ذلك. فهم افترضوا انعدام الأشياء (انعداما مطلقاً) ثم راحوا يبحثون عن الشيء إذا كان معدوما مطلقا، فهل يمكن أن يوجد مرّة أخرى، أم إن ذلك من المحالات؟ ولما كانت الأديان قد أخبرت عن عودة الإنسان بعد الموت والفناء، فقد فهموا من المعاد المذكور هو إعادة المعدوم ورجعة الشيء الذي فنى بالكامل. [8]
عودة الأرواح إلى الأجساد: يفسّر فريق آخر من الباحثين بل مشهور المتكلمين المعادَ بأنّه يمثل عودة الأرواح إلى الأجساد المادية. فعندما يموت الإنسان تفارق روحه بدنه وتصير الروح المنفصلة إلى عالم معيّن يقال له البرزخ إلى أن تحلّ القيامة. وعندما تقوم الساعة ترجع كل روح لبدنها. [9] عودة الأرواح المجرّدة إلى الله تعالى: هناك طائفة أخرى من المفكرين والأعلام ذهبت إلى تفسير المعاد بعودة الروح المجردة ورجوعها إلى الله تعالى. ولكي تتضح هذه النظرية بجلاء لابد من الإشارة إلى بعض المقدمات:
عودة الأرواح إلى الله بكيفية جسمانية: اختار فريق آخر الجمع بين هذين الإثنين وانتهوا إلى نظرية مؤدّاها: إذا كان المعاد هو العود إلى الله وليس عودة الأرواح إلى الأجسام، فإنّ لهذا العود كيفية جسمانية في الوقت نفسه. وبعبارة أخرى: إن المعاد يعني رجوع الروح إلى ربّها لكن لا مجرّدة تماما عن البدن وعن خصوصيات المادة معاً، ولا مصاحبة للبدن المادي بتمام وجوده وخصوصياته معا، بل ترجع الروح إلى بارئها مع الخصوصيات الجسمانية فقط. فللإنسان وفق نظرية هؤلاء بدن يسمّى بالبدن المثالي أو البدن البرزخي، هو موجود ومتّحد الآن مع بدنه هذا، فإذا مات الإنسان صار لبدنه هذا حكم الفضلة والقشر ولذلك المثالي البرزخي حكم الجوهر، والبدن الأوّل هو الذي يتحلل ويتغير ويفنى باستمرار، ليظهر بدن آخر بدلا منه. فبالموت يتحرر بدنه المثالي- وهو بدن الإنسان الحقيقي- من هذا البدن الذي هو كاللباس لذلك البدن المثالي ويلقى ربّه به يوم القيامة. [10]
تجدد الحياة الدنيوية المادّية بشكل آخر: أراد فريق آخر أن يفسّر المعاد على أنّه شأن مادّيّ وطبيعي، مثلما حصل للمجموعة الأولى، ولكن دون حاجة للقول بعودة الأرواح إلى الأجسام. فالأرواح– حسب رأي هؤلاء- لا تعود إلى الأجسام؛ لأنه ليس هناك أرواح بالأساس، بل تتجدّد الحياة المادية هذه بنفسها بشكل آخر على نحو تدريجيّ كما حصل أول مرّة وفي النشأة المادية في الحياة الدنيوية. [11]
يمكن الإشارة إلى طائفتين من الأدلة لإثبات المعاد، الطائفة الأولى، تلك اللأدلة التي تثبت ضرورة وجود عالم آخر وراء العالم المادي؛ والطائفة الثانية تثبت إمكانية ذلك العالم بالاستعانة بالآيات والروايات والظواهر المشابهة للمعاد.
وهذا الدليل يبتني على مجموعة من المقدمات منطلقا من الميل البشري الفطري العام. - جميع الناس ميّالون فطرياً نحو البقاء والخلود؛ - لم يخلق الله تعالى تلك الميول في الإنسان عبثا وبلا غاية؛ لحكمته والحكيم لا يصدر منه العبث واللغو. - لا ريب أن الدنيا ليست بدار قرار وخلود؛ - إذن لابد من وجود عالم آخر يتصف بالخلود والسرمدية، ليؤمن للإنسان ميله الفطري نحو الخلود بالنحو الأمثل. [12]
قرر بعض الأعلام والمفكرين برهان الحكمة بالنحو التالي:
إن خلق الإنسان ليس عبثا أي بلا هدف وغاية، بل هو خلق لحكمة، انطلاقاً من صفة الحكيم التي يتسم بها الله تعالى، ومن هنا خلق العالم بالصورة التي يترتب عليها أكثر ما يمكن من الخير والكمال وأن تصل المخلوقات إلى غايتها وكمالها اللائق والمناسب لها.
ولما كان الإنسان يمتلك الروح القابلة للبقاء، ويمكنه الحصول على الكمالات الأبدية الخالدة، تلك الكمالات التي لا يمكن مقارنتها بالكمالات المادية من حيث الدرجة والقيمة الوجودية، بل تفضل عليها وتتفوق بكثير، فإذا تحددت حياته بهذه الدائرة الدنيوية الضيقة، فإنّ ذلك لا يتلائم مع الحكمة الإلهية، وخاصة مع ملاحظة اقتران الحياة الدنيوية بالمتاعب والمشاق والمصاعب الكثيرة، ولا يمكن الحصول على لذة غالبا دون معاناة ومشقة وتعب وأنّ الحصول على تلك اللذات الضئيلة لا يساوي شيئا تجاه المتاعب والمصاعب التي يتحملها الإنسان في سبيل الحصول عليها.
إن هذه الحياة الدنيوية هي الحياة الروتينية الرتيبة المرهقة والباعثة على الملل والسأم، لا يرتضيها العقل، ولا يفتي باختيارها، ولا تنسجم مع الحكمة الإلهية، ومن هنا لابد من وجود عالم آخر يخلو من هذه الإشكالية ويوفر للإنسان ما يصبو إليه من جهة وينسجم مع الحكمة الإلهية من جهة أخرى. إذن، فوجود مثل هذا الميل الفطري إنما يتلائم مع الحكمة الإلهية فيما لو وجدت حياة أخرى غير هذه الحياة المحكوم عليها بالموت والفناء. [13]
ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البرهان في قوله تعالى: ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَینَهُما لاعِبینَ ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكنَّ أَكثَرَهُمْ لا یعْلَمُونَ إِنَّ یوْمَ الْفَصْلِ میقاتُهُمْ أَجْمَعینَ﴾.[14]
ويتشكل البرهان من المقدمات التالية: - لاريب أن الله رحيم بعبادة؛ - إن رحمته تعالى تعمّ جميع المخلوقات؛ - شمول الرحمة الإلهية للعباد تستلتزم أن لا تحرم الموجودات من خروج طاقتها واستعداداتها من القوّة إلى الفعلية؛ - ينال الإنسان الكمال بواسطة أفعاله الإختيارية الدنيوية ويكون مستعدّاً لتلقي الفيض والنعم الروحية والمعنوية؛ - عالم الدنيا- لضيقه- لا يوفر للإنسان المجال الكافي ليستفيد من كمالاته التي حصل عليها من خلال أعماله الإختيارية؛ ومن هنا لابد من وجود عالم آخر يوفر لكل إنسان الأرضية المناسبة ليقتطف ثمار كمالاته التي نالها. [15] ولقد أشارت الآية 12 من سورة الأنعام إلى هذا المعنى: ﴿قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كتَبَ عَلی نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَیجْمَعَنَّكمْ إِلی یوْمِ الْقِیامَةِ لا رَیبَ فیهِ الَّذینَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا یؤْمِنُونَ﴾.
يستند هذا البرهان على صفة العدل التي يتصف بها الباري تعالى، وذلك: أنّ الناس أحرار في هذا العالم في اختيار أو ممارسة الأعمال الحسنة أو السيئة. فمن جانب، نلاحظ بعض الأفراد يقضون أعمارهم كلّها في عبادة الله وخدمة عباده ومن جانب آخر، نلاحظ بعض الأشرار والمجرمين يرتكبون- من أجل الوصول لنزواتهم وأطماعهم الشيطانية - أبشع أنواع الظلم وأفضع ألوان الذنوب، بل إن الهدف من خلق الإنسان في هذا العالم، وتجهيزه بأنواع الميول المتضادة، وبقوّة الإرادة والاختيار، وبأنواع المعارف العقلية والنقلية وتوفير الأجواء والظروف للأفعال المختلفة، وجعله على مفترق طريقين، الحق والباطل، والخير والشر، الهدف من ذلك كلّه أن يكون معرضا للاختبارات والابتلاءات العديدة، وليختار مسير تكامله بإرادته واختياره، حتّى يصل إلى نتائج أفعاله الاختيارية، وثوابها أو عقابها. وفي الواقع إنّ الحياة الدنيوية بكاملها جعلت للإنسان دار إبتلاء واختبار، وبناء لهويته الإنسانية، وحتى في أواخر لحظات حياته وعمره، لا يعفى من هذا الامتحان والتكليف وممارسة الوظائف.
ولكننا نرى أنّ الأخيار والأشرار لا يصلون في هذه الدنيا إلى الثواب والعقاب الملائم لأعمالهم، بل إننا نرى الكثير من الأشرار والمجرمين يتوفرون أكثر من غيرهم على النعم والملذات، والملاحظ أن الحياة الدنيوية لا تستوعب الثواب أو العقاب على الكثير من الأعمال والتصرفات. فمثلا: ذلك المجرم الذي قتل آلاف الأبرياء لا يمكن الاقتصاص منه في هذه الدنيا إلا مرّة واحدة وبطبيعة الحال سوف تبقى الكثير من جرائمه بدون عقاب مع أن مقتضى العدل الإلهي أن يرى حتى من ارتكب أقل الأعمال الحسنة أو السيئة نتائجها وجزاءَها.
إذن. فكما إنّ هذا العالم دار اختبار وتكليف، فلابد من وجود عالم آخر، يعتبر دار ثواب وعقاب، وظهور نتائج الأعمال فيه، ليصل كل فرد إلى ما يتلائم وأعماله، لتتجسد العدالة الإلهية عمليا وحسيّا بذلك. [16] وقد جاء في أكثر من آية من آيات الذكر الحكيم الإشارة إلى حقيقة أنه لا يمكن المساواة بن المجرمين والصالحين بحال من الأحوال، كما في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذینَ اجْتَرَحُوا السَّیئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كالَّذینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْیاهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما یحْكمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزی كلُّ نَفْسٍ بِما كسَبَتْ وَهُمْ لا یظْلَمُونَ﴾. [17]
من السهل على المؤمنين بالقرآن الكريم الإيمان بإمكانية المعاد لما لمسوه من الأمثلة التي ساقها القرآن كظواهر مشابهة للمعاد والدالة على إمكانية البعث والنشور وعودة الحياة يوم القيامة، منها:
أشار القرآن إلى مجموعة من الفتية آمنوا باللَّه تعالى وكانوا يخفون إيمانهم خوفاً من ملكهم، الّذي كان يعبد الأصنام ويدعو إليها، ويقتل من خالفه، ثم اتفق أنّهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم لبعضهم، ولجأوا إلى كهف فضرب سبحانه على آذانهم، فناموا في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين، ثم بعثهم. يقول سبحانه في سورة الكهف: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إلى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا.... وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾. إحياء الموتى على يد عيسى : المثال الآخر الذي أشارت إليه الآيات القرآنية لتقريب فكرة المعاد يتمثل في إحياء الموتى على يد النبي عيسى في قوله تعالى: ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكمَهَ وَلْأَبْرَصَ وَ أُحْي الْمَوْتی بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.[18]
وهذا هو المثال الثالث الذي قرّب فيه القرآن فكرة المعاد وإمكانية وقوعها وأن إعادة إحياء الموتى تقترب من الناحية الإمكانية مع إحياء النباتات الجافة، كما في الآية المباركة: ﴿فَانظُرْ إِلَی آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كیفَ یحْیي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِك لَمُحْیي الْمَوْتَی وَهُوَ عَلَی كلِّ شَيءٍ قَدِیرٌ﴾.[19] وغير ذلك من الشواهد التي أشارت إليها الآيات الكريمة كإحياء الطيور وإحياء النبي عزير.
يظهر اهتمام القرآن الكريم بأمر المعاد جليّاً من كثرة الآيات التي تعرضت للحديث عنه من أكثر من زواية والتي بلغت ما يقرب الثلث من مجموع الآيات القرآنية التي تتوزع على مجموعة من الطوائف، هي:
إن التأمل بتلك الطوائف من الآيات المباركة يظهر لنا وبوضوح أن طائفة كبيرة من كلام الأنبياء وجدالهم مع الناس اختص بهذا الأصل العقائدي، بل يمكن القول بأنّ الجهود التي بذلها الأنبياء لإثبات المعاد تفوق جهودهم في إثبات أصل التوحيد؛ وذ